الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والثاني: يخشى اللّهَ ويخشى البعث، قاله مقاتل.قوله تعالى: {وذَكَرَ اللّهَ كثيرًا} أي: ذكْرًا كثيرًا، لأن ذاكر الله متَّبع لأوامره، بخلاف الغافل عنه.ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب، فقال: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعَدَنا اللّهُ ورسولُه} وفي ذلك الوعد قولان:أحدهما: أنه قوله: {أم حَسبتم أن تدخلوا الجَنَّة ولَمَّا يأتكم مَثَل الذين خَلَوا منْ قَبْلكم} الآية: [البقرة: 214] فلمَّا عاينوا البلاء يومئذ قالوا: هذا ما وعَدَنا اللّهُ ورسولُه، قاله ابن عباس، وقتادة في آخرين.والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم النصر والظهور على مدائن كسرى وقصور الحيرة، ذكره الماوردي وغيره.قوله تعالى: {وما زادهم} يعني ما رأوه {إلاَّ إيمانًا} بوعد الله {وتسليمًا} لأمره.قوله تعالى: {منَ المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه}.اختلفوا فيمن نزلت على قولين.أحدهما: أنها نزلت في أنس بن النضر، قاله أنس بن مالك.وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال: غاب عمّي أَنَس بن النَّضْر عن قتال بدر، فلمَّا قَدم قال: غبْتُ عن أوَّل قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين، لئن أشهدني اللّهُ عز وجل قتالًا لَيَرَيَنَّ اللّهُ ما أصنع، فلمّا كان يوم أُحُدٍ انكشف الناسُ، فقال: اللهم إني أبرأُ إليكَ ممَّا جاء به هؤلاء، يعني المشركين، وأعتذر إليك ممَّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين؛ ثم مشى بسيفه، فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد، والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أُحُد، واهًا لريح الجنة.قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع؛ قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضْع وثمانون جراحة، من ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورَمْيَة بسهم، قد مثَّلوا به؛ قال: فما عرفناه حتى عرفتْه أختُه ببَنانه؛ قال أنس: فكنّا نقول: أُنزلت هذه الآية: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} فيه وفي أصحابه.والثاني: أنها نزلت في طلحة بن عبيد الله، روى النزَّال بن سَبْرة عن عليّ عليه السلام أنهم قالوا له: حدّثنا عن طلحة، قال: ذاك امرؤٌ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى: {فمنهم من قضى نحبه} لا حساب عليه فيما يستقبل.وقد جعل بعض المفسرين هذا القدر من الآية في طلحة، وأولها في أنس.قال ابن جرير: ومعنى الآية: وَفَوا لله بما عاهدوه عليه.وفي ذلك أربعة أقوال:أحدها: أنهم عاهدوا ليلة العقبة على الإسلام والنصرة.والثاني: أنهم قوم لم يشهدوا بدرًا، فعاهدوا الله أن لا يتأخَّروا بعدها.والثالث: أنهم عاهدوا أن لا يفرُّوا إذا لاقَوا، فصَدَقوا.والرابع: أنهم عاهدوا على البأساء والضرَّاء وحين البأس.قوله تعالى: {فمنهم من قضى نَحْبه ومنهم من يَنْتَظرُ} فيه ثلاثة أقوال:أحدها: فمنهم من مات، ومنهم من ينتظر الموت، قاله ابن عباس.والثاني: فمنهم من قضى عهده قُتل أو عاش.ومنهم من ينتظر أن يقضيَه بقتال أو صدق لقاءٍ، قاله مجاهد.والثالث: فمنهم من قضى نَذْره الذي كان نذر، قاله أبو عبيدة.فيكون النَّحْب على القول الأول: الأَجْل؛ وعلى الثاني: العهد؛ وعلى الثالث: النَّذْر.وقال ابن قتيبة: {قضى نحبه} أي: قُتل، وأصل النَّحْب: النَّذْر، كأن قومًا نذورا أنهم إن لَقُوا العدوَّ قاتَلوا حتى يُقتَلوا أو يَفتَح اللّهُ عليهم، فقُتلوا، فقيل: فلان قضى نَحْبَه، أي: قُتل، فاستعير النَّحْب مكان الأَجَل، لأن الأَجَل وقع بالنَّحْب، وكان النَّحْبُ سببًا له، ومنه قيل: للعطيَّة: منْ، لأن من أعطى فقد مَنَّ.قال ابن عباس: ممَّن قضى نَحْبه: حمزة بن عبد المطلب، وأنس بن النَّضْر وأصحابه.وقال ابن إسحاق: {فمنهم من قضى نحبه} من استُشهد يوم بدر وأُحُدٍ، {ومنهم من ينتظرُ} ما وعد اللّهُ من نصره، أو الشهادة على ما مضى عليه أصحابه {وما بدَّلوا} أي: ما غيَّروا العهد الذي عاهدوا ربَّهم عليه كما غيَّر المنافقون.قوله تعالى: {ليَجْزيَ اللّهُ الصَّادقين بصدقهم} وهم المؤمنون الذين صدقوا فيما عاهدوا {الله} عليه {ويعذّبَ المنافقين} بنقض العهد {إن شاء} وهو أن يُميتَهم على نفاقهم {أو يتوبَ عليهم} في الدنيا، فيخرجَهم من النفاق إلى الإيمان، فيغفر لهم. اهـ.
وقال آخر: وقال آخر: وروى البخاريّ ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال عمّي أنس بن النَّضْر سُمّيت به ولم يشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكَبُر عليه فقال: أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبتُ عنه، أما واللَّه لئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد لَيَرَيَنّ الله ما أصنع.قال: فهاب أن يقول غيرها؛ فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد من العام القابل، فاستقبله سعد بن مالك فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واهًا لريح الجنة! أجدها دون أُحُد؛ فقاتل حتى قُتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورَمْية.فقالت عَمّتي الرُّبَيّع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا بَبَنانه.ونزلت هذه الآية: {رجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه فَمنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمنْهُمْ مَّن يَنتَظرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْديلًا} لفظ الترمذيّ، وقال: هذا حديث حسن صحيح.وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {مّنَ المؤمنين رجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه} [الأحزاب: 23] الآية: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصيبت يده؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أوجب طلحة الجنة» وفي الترمذيّ عنه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابيّ جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقّرونه ويهابونه؛ فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه؛ ثم إني اطّلعت من باب المسجد وعليّ ثياب خضر، فلما رآني النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أين السائل عمن قضى نحبه؟» قال الأعرابي: أنا يا رسول الله قال: «هذا ممن قضى نَحْبَه» قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير.وروى البيهقي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحُد، مرّ على مصعب بن عُمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودَعَا له، ثم تلا هذه الآية: {مّنَ المؤمنين رجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه فَمنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ إلى تَبْديلًا} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأْتُوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه» وقيل: النحب الموت؛ أي مات على ما عاهد عليه؛ عن ابن عباس.والنحب أيضًا الوقت والمدّة يقال: قضى فلان نحبه إذا مات وقال ذو الرمّة: والنَّحْب أيضًا الحاجة والهمة؛ يقول قائلهم: مالي عندهم نحب؛ وليس المراد بالآية.والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدّمنا أوّلًا؛ أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل؛ مثل حمزة وسعد بن معاذ وأنس بن النضر وغيرهم.ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدّلوا عهدهم ونذرهم.وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ: {فَمنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمنْهُمْ مَّن يَنتَظرُ ومنهم من بدّل تَبْديلًا} قال أبو بكر الأنباريّ: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود؛ لخلافه الإجماع، ولأن فيه طعنًا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء؛ فما يعرف فيهم مغيّر وما وجد من جماعتهم مبدّل؛ رضي الله عنهم.{لّيَجْزيَ الله الصادقين بصدْقهمْ} أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم.{وَيُعَذّبَ المنافقين} في الآخرة {إن شَاءَ} أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة؛ وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت.{إنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحيمًا}. اهـ.
|